فصل: بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.فصل الصلح عن دعوى الأموال:

(وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ (وَالْمَنَافِعُ لِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِدِ مَا أَمْكَنَ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مُقَدِّمَاتِ الصُّلْحِ وَشَرَائِطِهِ وَمِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ عَنْهُ الصُّلْحُ وَمَا لَا يَجُوزُ.
قَالَ (وَالصُّلْحُ جَائِزٌ عَنْ دَعْوَى الْأَمْوَالِ) الْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْعُقُودِ إلَيْهِ وَأَشْبَهِهَا بِهِ احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ كَمَا مَرَّ.
وَإِذَا كَانَ عَنْ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ كَمَا إذَا أَوْصَى بِسُكْنَى دَارِهِ وَمَاتَ فَادَّعَى الْمُوصَى لَهُ السُّكْنَى فَصَالَحَ الْوَرَثَةَ عَنْ شَيْءٍ كَانَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالصُّلْحِ قَالَ (وَيَصِحُّ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى أَنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صَلَحَ هَاهُنَا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ هُنَا يُصَارُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّهَا مُوجَبُ الدَّمِ.
وَلَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ الْعَفْوِ.
وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ لِأَنَّهُ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ، وَيَجِبُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ حُكْمًا، وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ الْجِنَايَةَ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَلَا حَقَّ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمَلُّكِ.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَمِلْكُ الْمَحَلِّ فِي حَقِّ الْفِعْلِ فَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَالسُّكُوتِ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْمَالُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَأِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ فَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ، أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ بِهَا، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.
وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِهَا فَصَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ جَازَ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ مُبَادَلَةً بِخِلَافِ الصُّلْحِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ التَّعْيِينِ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا تَعَيَّنَ.
الشَّرْحُ:
وَإِذَا صَالَحَ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ صَحَّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ: فَمَنْ أَعْطَى لَهُ فِي سُهُولَةٍ مِنْ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَاتِّبَاعٌ: أَيْ فَلِوَلِيِّ الْقَتِيلِ اتِّبَاعُ الْمُصَالِحِ بِبَدَلِ الصُّلْحِ بِالْمَعْرُوفِ: أَيْ عَلَى مُجَامَلَةٍ وَحُسْنِ مُعَامَلَةٍ وَأَدَاءٍ: أَيْ وَعَلَى الْمُصَالِحِ أَدَاءُ ذَلِكَ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ بِإِحْسَانٍ فِي الْأَدَاءِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنْ جِنَايَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الْآخَرُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ وَهُوَ الْقَاتِلُ مِنْ أَخِيهِ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ شَيْءٌ مِنْ الْقِصَاصِ بِأَنْ كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا بَعْضُهُمْ فَقَدْ صَارَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا وَهُوَ الدِّيَةُ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ فَاتِّبَاعُ الْمَعْرُوفِ: أَيْ فَلْيَتَّبِعْ الَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا الْقَاتِلَ بِطَلَبِ حِصَصِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ: أَيْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ: أَيْ وَلْيُؤَدِّ الْقَاتِلُ إلَى غَيْرِ الْعَافِي حَقَّهُ وَافِيًا غَيْرَ نَاقِصٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ ظَاهِرًا، فَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٌ إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ (قَوْلُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ) إشَارَةٌ إلَى أَقْرَبِ عَقْدٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي، وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَمَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ صَلَحَ هَاهُنَا، فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً جَازَ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْلُومَةَ صَلَحَتْ صَدَاقًا، فَكَذَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ وَإِنْ صَالَحَ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا لِجَهَالَتِهِ فَكَذَا بَدَلًا، وَلَا يُتَوَهَّمُ لُزُومُ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا هُوَ مُلْتَزِمٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ صَدَاقًا، وَأَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ مَنْ عَلَيْهِ عَنْ قِصَاصٍ لَهُ عَلَى آخَرَ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ صَدَاقًا لِأَنَّ كَوْنَ الصَّدَاقِ مَالًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وَبَدَلُ الصُّلْحِ فِي الْقِصَاصِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُكْتَفَى بِكَوْنِ الْعِوَضِ فِيهِ مُتَقَوِّمًا وَالْقِصَاصُ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى صَلَحَ الْمَالُ عِوَضًا عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عِوَضًا عَنْ قِصَاصٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ عِنْدَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ مَا صَلَحَ مُسَمًّى فِيهِ صُلْحٌ هَاهُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ: أَيْ لَكِنْ إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ أَوْ بِتَسْمِيَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يُصَارُ إلَى الدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَيُصَارُ إلَى بَدَلِ مَا سَلَّمَ لَهُ مِنْ النَّفْسِ وَهُوَ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ الصُّلْحُ لَا تَتَحَمَّلُهُ لِوُجُوبِهِ بِعُقْدَةٍ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَمَا لَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْرٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسَمَّ مَالًا مُتَقَوِّمًا صَارَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سِيَّيْنِ، وَلَوْ سَكَتَ لَبَقِيَ الْعَفْوُ مُطْلَقًا، وَفِيهِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ فَكَذَا فِي ذِكْرِ الْخَمْرِ (وَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ فِي فَصْلِ تَسْمِيَةِ الْمَالِ الْمَجْهُولِ وَفَصْلِ الْخَمْرِ (لِأَنَّهُ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ) فِي النِّكَاحِ (وَيَجِبُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ حُكْمًا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَهْرَ مِنْ ضَرُورَاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا بِالْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسَمَّى صَالِحًا صَارَ كَمَا لَوْ لَمْ يُسَمَّ مَهْرًا، وَلَوْ لَمْ يُسَمَّ مَهْرًا وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَأَمَّا الصُّلْحُ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وُجُوبُ الْمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَفَا بِلَا تَسْمِيَةِ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يُسَمَّى صُلْحًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى مَا لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَفْوٌ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فَصَحَّ أَنَّ وُجُوبَهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ (وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ) وَهُوَ قَوْلُهُ وَيَصِحُّ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ (الْجِنَايَةُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا وَهَذَا) أَيْ الصُّلْحُ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ (بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ حُقَّ أَنْ يُمْتَلَكَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ التَّمَلُّكِ) فَأَخْذُ الْبَدَلِ أَخْذُ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحَلِّ وَذَلِكَ رِشْوَةٌ حَرَامٌ.
أَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَحَلِّ فِيهِ ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ فِعْلُ الْقِصَاصِ فَكَانَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَمَّا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ صَحِيحًا (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ بَطَلَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ وَالسُّكُوتِ) وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ احْتِرَازًا عَنْ الصُّلْحِ عَلَى أَخْذِ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الصُّلْحَ مَعَ الشَّفِيعِ فِيهِ جَائِزٌ، وَعَنْ الصُّلْحِ عَلَى بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ لَكِنْ لَا تَبْطُلُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهَذَا الصُّلْحِ (وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الشُّفْعَةِ) يَعْنِي إذَا كَفَلَ عَنْ نَفْسِ رَجُلٍ فَجَاءَ الْمَكْفُولُ وَصَالَحَ الْكَفِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ وَيَخْرُجَ الْكَفِيلُ عَنْ الْكَفَالَةِ لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ (وَلَا يَجِبُ الْمَالُ، غَيْرَ أَنَّ فِي بُطْلَانِ الْكَفَالَةِ رِوَايَتَيْنِ) فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةُ تَبْطُلُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ، وَبِهِ يُفْتِي لِأَنَّ السُّقُوطَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِوَضِ، وَإِذَا سَقَطَتْ لَا تَعُودُ وَفِي الصُّلْحِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ وَقَدْ تَكُونُ مُوصِلَةً إلَى الْمَالِ فَأَخَذَتْ حُكْمَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذَا رَضِيَ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَسْقُطْ مَجَّانًا (وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ جِنَايَةُ الْخَطَإِ فَلِأَنَّ مُوجِبَهَا الْمَالُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ) ثُمَّ الصُّلْحُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُنْضَمًّا إلَى الصُّلْحِ عَنْ الْعَمْدِ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَا يَصِحُّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ شَرْعًا وَالْمُقَدَّرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَبْطُلُ فَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ إبْطَالًا لَهُ، بَلْ الْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُقَابِلَهُ مَالٌ، وَلَكِنَّهُ أَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي تَقَوُّمِهِ بِالْعَقْدِ فَجَازَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ كَالتَّسْمِيَةِ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ مُنْضَمًّا إلَى الْعَمْدِ كَانَ كَمَا إذَا قَتَلَ عَمْدًا وَآخَرَ خَطَأً ثُمَّ صَالَحَ أَوْلِيَاءَهُمَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ دِيَتَيْنِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَلِصَاحِبِ الْخَطَإِ الدِّيَةُ وَمَا بَقِيَ فَلِصَاحِبِ الْعَمْدِ، كَمَنْ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ مِائَةُ دِينَارٍ وَلِآخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلِصَاحِبِ الْأَلْفِ الْأَلْفُ وَالْبَاقِي لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ.
وَالثَّانِي كَمَا إذَا صَالَحَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنِ الدِّيَةِ بِدَيْنِ بَدَلِ الصُّلْحِ (وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ مِثْلُ أَنْ قَضَى بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ ثُمَّ صَالَحَ أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتِي بَقَرَةٍ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَضَاءِ فِي الْإِبِلِ) وَخَرَجَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بِهَذَا الْفِعْلِ (فَكَانَ مَا يُعْطِي عِوَضًا عَنْ الْوَاجِبِ) فَكَانَ صَحِيحًا (بِخِلَافِ الصُّلْحِ) بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ (ابْتِدَاءً لِأَنَّ تَرَاضِيَهُمَا عَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّ التَّعْيِينِ) وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ الْمَقَادِيرِ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَا هَذَا. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَعْوَى حَدٍّ) لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا حَقُّهُ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ نَسَبَ وَلَدِهَا لِأَنَّهُ حَقُّ الْوَلَدِ لَا حَقُّهَا، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَمَّا أَشْرَعَهُ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ وَاحِدٌ عَلَى الِانْفِرَادِ عَنْهُ؛ وَيَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ الْجَوَابِ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَعْوَى حَدِّ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا أَخَذَ رَجُلٌ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ وَأَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَصَالَحَهُ الْمَأْخُوذُ عَلَى مَالٍ لِيَتْرُكَ ذَلِكَ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ.
وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الصُّلْحُ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَوْ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ، وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ صَبِيًّا هُوَ بِيَدِهَا أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا وَجَحَدَ الرَّجُلُ وَلَمْ تَدَّعِ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ وَقَالَتْ إنَّهُ طَلَّقَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ وَصَدَّقَهَا فِي الطَّلَاقِ فَصَالَحَ مِنْ النَّسَبِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ (وَإِذَا أَشْرَعَ رَجُلٌ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَصَالَحَ وَاحِدٌ مِنْ الْعَامَّةِ عَلَى مَالٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ انْفِرَادُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ) وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الظُّلَّةَ إذَا كَانَتْ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ جَازَ الصُّلْحُ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْأَفْرَادِ، وَالصُّلْحُ مَعَهُ مُفِيدٌ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ وَيَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَحْصِيلِ رِضَا الْبَاقِينَ؛ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَاحِدٌ عَلَى الِانْفِرَادِ لِأَنَّ صَاحِبَ الظُّلَّةِ لَوْ صَالَحَ الْإِمَامَ عَلَى دَرَاهِمَ لِيَتْرُكَ الظُّلَّةَ جَازَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ لِلْإِمَامِ عَنْ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ جَائِزٌ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ صَحَّ (وَحَدُّ الْقَذْفِ دَاخِلٌ فِي جَوَابِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ) وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ عَفْوُهُ وَلَا يُورَثُ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ. قَالَ (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ وَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ خُلْعًا فِي جَانِبِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَفِي جَانِبِهَا بَدَلًا لِلْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ.
قَالُوا: وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا إلَخْ) هَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَارِّ أَنَّ الصُّلْحَ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِأَقْرَبِ الْعُقُودِ إلَيْهِ شَبَهًا، وَإِذَا جَحَدَتْ النِّكَاحَ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ خُلْعًا فِي جَانِبِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ وَبَذْلًا لِلْمَالِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَقَطْعِ الشَّغَبِ وَالْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي جَانِبِهَا، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى التَّزْوِيجِ بَيِّنَةً بَعْدَ الصُّلْحِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّ مَا جَرَى كَانَ خُلْعًا فِي زَعْمِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهَا بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فِي دَعْوَاهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا أَخَذَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ، إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ بِطِيبٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَمْلِيكًا عَلَى طَرِيقِ الْهِبَةِ. قَالَ (وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا جَازَ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ، وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: لَمْ يَجُزْ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا.
وَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ بَذَلَ لَهَا الْمَالَ لِتَتْرُكَ الدَّعْوَى فَإِنْ جُعِلَ تَرْكُ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَالزَّوْجُ لَا يُعْطِي الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فَالْحَالُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى فَلَا شَيْءَ يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ فَلَمْ يَصِحَّ.
الشَّرْحُ:
وَفِي عَكْسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مَا إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا اخْتَلَفَ نُسَخُ الْمُخْتَصَرِ فِي ذَلِكَ، فَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا جَازَ، وَفِي بَعْضِهَا لَمْ يَجُزْ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الزَّوْجَ بِإِعْطَاءِ بَدَلِ الصُّلْحِ زَادَ عَلَى مَهْرِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا.
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ بَذَلَ لَهَا لِتَتْرُكَ الدَّعْوَى، فَإِنْ جَعَلَ تَرْكَ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَلَا عِوَضَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْفُرْقَةِ كَمَا إذَا مَكَّنَتْ ابْنَ زَوْجِهَا، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فُرْقَةً فَالْحَالُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمَّا لَمْ تُوجَدْ كَانَتْ دَعْوَاهَا عَلَى حَالِهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ فِي زَعْمِهَا فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ شَيْءٌ يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ فَكَانَ رِشْوَةً قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ جَازَ وَكَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي حَقِّهِ لِزَعْمِهِ وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ فَجَازَ إلَّا أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلَ وَيَثْبُتَ الْوَلَاءُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ) مَجْهُولِ الْحَالِ (أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَأَقْرَبُ الْعُقُودِ إلَيْهِ شَبَهًا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَتِهِ لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي زَعْمِهِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ إلَى أَجَلٍ فِي الذِّمَّةِ) وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالدِّيَاتِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ (وَ) يُجْعَلُ (فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَجَازَ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلُ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ) لِأَنَّهُ صَالَحَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ فَكَانَ صُلْحُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَفِيهِ الْوَلَاءُ قَالَ (وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَهُ جَازَ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ تِجَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا بِمَالِ الْمَوْلَى وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، أَمَّا عَبْدُهُ فَمِنْ تِجَارَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِ وَهَذَا شِرَاؤُهُ فَيَمْلِكُهُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ) سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا (وَإِنْ قَتَلَ عَبْدٌ لَهُ) أَيْ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ (رَجُلًا عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْهُ جَازَ) سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا (وَالْفَرْقُ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ حَاصِلَةً مِنْ تِجَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَيْعًا وَإِنْ جَازَ إجَارَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ رَقَبَتَهُ بِمَالِ الْمَوْلَى وَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ) أَيْ صَارَ الْعَبْدُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَالُ الْمَوْلَى، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا صَالَحَ عَنْ مَالِ مَوْلَاهُ بِدُونِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا أَمَّا عَبْدُهُ فَمِنْ تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ نَافِذٌ بَيْعًا فَكَذَا اسْتِخْلَاصًا (وَ) تَحْقِيقُ (هَذَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِهِ) فَصَارَ كَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُتْلِفَهُ (وَهَذَا) أَيْ الصُّلْحُ (كَأَنَّهُ شِرَاؤُهُ وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ) بِخِلَافِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إذَا زَالَ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ فَكَذَا لَا يَمْلِكُ الصُّلْحَ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَصَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ جَازَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا وَاكْتِسَابُهُ لَهُ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّهُ عَبْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ، ثُمَّ صُلْحُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ لَكِنْ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنْ يَقْتُلَهُ بَعْدَ الصُّلْحِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَالَحَهُ فَقَدْ عَفَا عَنْهُ بِبَدَلٍ فَصَحَّ الْعَفْوُ، وَلَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتَأَخَّرَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ صُلْحَهُ عَنْ نَفْسِهِ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَصَارَ كَأَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَا أَنْ يُتْبِعَهُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَعْتِقْ، فَكَذَا هَذَا قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا يَهُودِيًّا قِيمَتُهُ دُونَ الْمِائَةِ فَاسْتَهْلَكَهُ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَلَى قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ هِيَ الْقِيمَةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا تَكُونُ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَرَضٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَبِخِلَافِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تَظْهَرُ الزِّيَادَةُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الْهَالِكِ بَاقٍ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا وَتَرَكَ أَخْذَ الْقِيمَةِ يَكُونُ الْكَفَنُ عَلَيْهِ أَوْ حَقُّهُ فِي مِثْلِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَقَبْلَهُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا، بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا يَهُودِيًّا إلَخْ) يَهُودٌ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثَّوْبُ يُقَالُ ثَوْبٌ يَهُودِيٌّ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ إشَارَةً إلَى كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ وَكُلُّ قِيَمِيٍّ مَعْلُومُ الْقِيمَةِ حُكْمُهُ كَذَلِكَ فَعَلَى هَذَا مَنْ غَصَبَ قِيَمِيًّا مَعْلُومَ الْقِيمَةِ فَاسْتَهْلَكَهُ فَصَالَحَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ النُّقُودِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ قِيمَتِهِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ، وَقَيَّدَ بِالْغَصْبِ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَى الصُّلْحِ غَالِبًا، وَقَيَّدَ بِالْقِيَمِيِّ احْتِرَازًا عَنْ الْمِثْلِيِّ، فَإِنَّ الصُّلْحَ عَنْ كُرٍّ حِنْطَةً عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ لَا، وَلَكِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ وَإِنْ كَانَتَا بِأَعْيَانِهِمَا لِئَلَّا يَلْزَمَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ لِيَظْهَرَ الْغَبَنُ الْفَاحِشُ الْمَانِعُ مِنْ لُزُومِ الزِّيَادَةِ عِنْدَهُمَا، وَقَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ قَائِمًا جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا وَقَبَضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً إنْ كَانَ قَائِمًا، وَتَقْدِيرًا إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا بِمُقَابَلَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فَقَالَا إنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ كَانَ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى عَرْضٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَبِخِلَافِ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ الزِّيَادَةُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ مَا لَمْ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا وَاخْتَارَ تَرْكَ التَّضْمِينِ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى كَانَ الْكَفَنُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ آبِقًا فَعَادَ مِنْ إبَاقِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَالُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ فِي الثَّوْبِ أَوْ الْعَبْدِ، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَالدَّرَاهِمِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا.
وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» فَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْغَصْبِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ لِتَقُومَ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، فَإِذَا صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ الْبَدَلُ عِوَضًا عَنْ الْعَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ الْجِنْسِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ لِيَكُونَ رِبًا، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْقِيَمِيِّ، وَذَكَرَ فِي الدَّلِيلِ الْمِثْلِيِّ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى إنَّمَا هُوَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ، وَلَا يُصَارُ فِيهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلِيُّ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَيْهَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمِثْلِيَّ إذَا انْقَطَعَ حُكْمُهُ كَالْقِيَمِيِّ لَا يَنْتَقِلُ فِيهِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَقَبْلَهُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا، بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ انْتَقَلَ إلَى الْقِيمَةِ.
وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَغْصُوبِ جَازَ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ بِمُقَابَلَةِ الْمَغْصُوبِ ثَمَنٌ وَبِمُقَابَلَةِ الْقِيمَةِ مَبِيعٌ، وَبِمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْمُسْتَهْلَكَ لَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ فَكَانَ كَالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ حَتَّى لَوْ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ حَالًّا جَازَ وَبِأَنَّ الْبَدَلَ جُعِلَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى الِاعْتِيَاضِ عَنْ الْمَقْتُولِ وَعُورِضَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ الْهَلَاكِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ الْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ حُكْمًا لَجَازَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَبِيعَ يَقْتَضِي قِيَامَ مَالٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ تَمْلِيكَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالْهَالِكُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَأَمَّا الصُّلْحُ فَيُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إسْقَاطًا وَصِحَّتُهُ لَا تَقْتَضِي قِيَامَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَقِيقَةً قَالَ (وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَصَالَحَهُ الْآخَرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعِتْقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَتَقْدِيرُ الشَّرْعِ لَا يَكُونُ دُونَ تَقْدِيرِ الْقَاضِي فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا (وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عُرُوضٍ جَازَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَخْ) ظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مَا مَرَّ فِي الْعَتَاقِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَيَضْمَنُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أَوْ يَسْعَى الْعَبْدُ».

.بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ:

(وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ فَصَالَحَ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ، وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ) وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ هُوَ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ، أَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ الْمُطَالِبُ بِالْمَالِ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا قَدَّمَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِهِ مُتَبَرِّعٌ.
قَالَ (وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ إلَخْ) وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ فَالصُّلْحُ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَنْهُ: أَيْ عَمَّنْ وَكَّلَ فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ.
وَرَوَى غَيْرُهُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ.
الْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ: أَيْ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أَيْ عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا تَرَى يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَلْزَمُهُ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا إلَّا إذَا ضَمِنَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ لَا الْوَكَالَةُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ، أَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ الْمُطَالَبُ بِالْمَالِ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ) وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالتُّحْفَةِ عَلَى إطْلَاقِ جَوَابِ الْمُخْتَصَرِ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا مَعْنَاهُ: إنَّهُ لابد لِتَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَالِحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ شَيْءٌ.
وَإِنْ كَانَ فِيهَا لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَوَازَهُ مَعَ الْخَصْمِ قَالَ (وَإِنْ صَالَحَ رَجُلٌ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إنْ صَالَحَ بِمَالٍ وَضَمِنَهُ تَمَّ الصُّلْحُ) لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْبَرَاءَةَ وَفِي حَقِّهَا هُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ فَصُلْحٌ أَصِيلًا فِيهِ إذَا ضَمِنَهُ، كَالْفُضُولِيِّ بِالْخُلْعِ إذَا ضَمِنَ الْبَدَلَ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُصَالِحِ شَيْءٌ مِنْ الْمُدَّعَى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا (وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفَيْ هَذِهِ أَوْ عَلَى عَبْدَيْ هَذَا صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا) لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ فَصَحَّ الصُّلْحُ (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ وَسَلَّمَهَا) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْعِوَضِ لَهُ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ (وَلَوْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ دَفْعَ الْخُصُومَةِ حَاصِلٌ لَهُ، إلَّا أَنَّ الْفُضُولِيَّ يَصِيرُ أَصِيلًا بِوَاسِطَةِ إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ بَقِيَ عَاقِدًا مِنْ جِهَةِ الْمَطْلُوبِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالَحْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهُ لِلتَّسْلِيمِ صَارَ شَارِطًا سَلَامَتَهُ لَهُ فَيَتِمُّ بِقَوْلِهِ.
وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُصَالِحِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا سِوَاهُ، فَإِنْ سَلِمَ الْمَحَلُّ لَهُ تَمَّ الصُّلْحُ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ.
بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا وَدَفَعَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَوْ وَجَدَهَا زُيُوفًا حَيْثُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَصِيلًا فِي حَقِّ الضَّمَانِ وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا سَلَّمَهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِبَدَلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَخْ) وَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ عِنْدَ الصُّلْحِ عَلَى مَالٍ؛ أَمَّا إنْ قَرَنَ بِذِكْرِ الْمَالِ ضَمَانَ نَفْسِهِ أَوَّلًا فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي أَمَّا إنْ أَضَافَ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ الْمَذْكُورَ أَوْ لَا فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَّانِي هُوَ الرَّابِعُ.
وَلَكِنْ يَرِدُ وَجْهَانِ آخَرَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ خَالِيًا عَنْ الْإِضَافَةِ إمَّا مُعَرَّفًا أَوْ مُنَكَّرًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ قُرِنَ بِهِ التَّسْلِيمُ أَوْ لَمْ يُقْرَنْ وَقَدْ ذَكَرَ وَجْهَا حُكْمِ الْمُنَكَّرِ وَبَقِيَ وَجْهَا حُكْمِ الْمُعَرَّفِ، وَلَكِنْ عُرِفَ وَجْهُ حُكْمِ الْمُعَرَّفِ الْمُسَلَّمِ بِذِكْرِ التَّسْلِيمِ فِي الْمُنَكَّرِ فَبَقِيَ حُكْمُ الْمُعَرَّفِ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ وَوَجْهٌ آخَرُ.
وَأَمَّا وَجْهُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا صَالَحَ وَضَمِنَ تَمَّ الصُّلْحُ، لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا الْبَرَاءَةُ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَفِي حَقِّ الْبَرَاءَةِ الْأَجْنَبِيُّ وَالْخَصْمُ سَوَاءٌ لِأَنَّ السَّاقِطَ يَتَلَاشَى، وَمِثْلُهُ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا فِي هَذَا الضَّمَانِ إذَا أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَالْفُضُولِيِّ بِالْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُصَالِحِ شَيْءٌ مِنْ الْمُدَّعَى: أَيْ لَا يَصِيرُ الدَّيْنُ الْمُدَّعَى بِهِ مِلْكًا لِلْمُصَالِحِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي فِي يَدِهِ: يَعْنِي فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَمَا مَرَّ لَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَإِذَا سَقَطَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَأَيُّ شَيْءٍ يَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا: أَيْ فِي أَنَّ الْمُصَالِحَ لَا يَمْلِكُ الدَّيْنَ الْمُدَّعَى بِهِ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا.
أَمَّا إذَا كَانَ مُنْكِرًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَزَعْمُ الْمُدَّعِي لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُقِرًّا فَبِالصُّلْحِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ الْمُصَالِحُ مُشْتَرِيًا مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا أَدَّى، إلَّا أَنَّ شِرَاءَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ تَمْلِيكُهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا، فَإِنَّ الْمُصَالِحَ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ شِرَاءَ الشَّيْءِ مِنْ مَالِكِهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ.
وَوَجْهُ الْوُجُوهِ الْبَاقِيَةِ مَذْكُورٌ فِي الْمَتْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، خَلَا أَنَّ قَوْلَهُ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَالِحْنِي عَلَى أَلْفِي يَنْفُذُ عَلَى الْمُصَالِحِ وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا إذَا قَالَ صَالِحْ فُلَانًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ دَعْوَاكَ عَلَى فُلَانٍ فَإِنَّهُ فِيهِ يَقِفُ عَنْ إجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَازَ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَبَاقِي كَلَامِهِ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ:

(وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ، كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفٌ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ) وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحَهُ مَا أَمْكَنَ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا فَجُعِلَ إسْقَاطًا لِلْبَعْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِلْبَعْضِ وَالصِّفَةِ فِي الثَّانِيَةِ (وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ (وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْخِيرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى الْمُعَاوَضَةِ، وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ (وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَةً لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ (وَإِنْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْبِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَهِيَ زَائِدَةٌ وَصْفًا فَيَكُونُ مُعَاوَضَةُ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَنْ الْأَلْفِ الْبِيضِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ سُودٍ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ كُلُّهُ قَدْرًا وَوَصْفًا، وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ أَوْ إلَى شَهْرٍ صَحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا لِلدَّنَانِيرِ كُلِّهَا وَالدَّرَاهِمِ إلَّا مِائَةً وَتَأْجِيلًا لِلْبَاقِي فَلَا يُجْعَلُ مُعَاوَضَةً تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَلْزَمُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الصُّلْحِ عَنْ عُمُومِ الدَّعَاوَى ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَ الْخَاصِّ وَهُوَ دَعْوَى الدَّيْنِ، لِأَنَّ الْخُصُوصَ أَبَدًا يَكُونُ بَعْدَ الْعُمُومِ.
قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ) بَدَلُ الصُّلْحِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ) الصُّلْحُ (عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بَلْ عَلَى اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي) وَقَيَّدَ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْغَصْبِ كَذَلِكَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصَّلَاحِ (كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ) جِيَادٌ حَالَّةٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ بَاعَهُ (فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إلَى الرِّبَا فَجُعِلَ إسْقَاطًا لِلْبَعْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَلِلْبَعْضِ وَالصِّفَةِ فِي الثَّانِيَةِ وَلَوْ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ صَحَّ) وَيُحْمَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ فِي جَعْلِهِ مُعَاوَضَةً بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمَلَهُ عَلَى إسْقَاطِ الْبَاقِي، كَمَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ بَطَلَ الصُّلْحُ، لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّأْخِيرِ فَتَعَيَّنَ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً، إذْ التَّصَرُّفُ فِي الدُّيُونِ فِي مَسَائِلِ الصُّلْحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي ذَلِكَ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً فَلَا يَجُوزُ (وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ) فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِسْقَاطِ (لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ) لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ وَهُوَ (خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ) لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ فِي مُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ مِثْلِهِ مِنْ الدَّيْنِ (وَ) صِفَةُ (التَّعْجِيلِ فِي مُقَابَلَةِ الْبَاقِي وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ) رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَهُ الرِّبَا.
وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ رِبَا النَّسَاءِ لَيْسَتْ إلَّا لِشُبْهَةِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْأَجَلِ، فَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَوْلَى بِذَلِكَ (وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ جَازَ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى إذَا كَانَ أَدْوَنَ مِنْ حَقِّهِ فَهُوَ إسْقَاطٌ كَمَا فِي الْعَكْسِ، وَإِنْ كَانَ أَزْيَدَ قَدْرًا أَوْ وَصْفًا فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لَهُ) فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ اسْتِيفَاءً (فَيَكُونُ مُعَاوَضَةَ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَزِيَادَةَ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا) فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ حَقُّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَبَهْرَجَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ النَّبَهْرَجَةِ وَجَازَ الصُّلْحُ وَالزِّيَادَةُ مَوْجُودَةٌ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ كَانَ رِبًا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهَا قُوبِلَتْ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ السُّودِ وَهُوَ رِبًا، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقَعْ فَذَلِكَ صَرْفٌ وَالْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ فِيهِ سَوَاءٌ يَدًا بِيَدٍ (وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ أَوْ مُؤَجَّلَةٍ صَحَّ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ إسْقَاطًا لِلدَّنَانِيرِ كُلِّهَا وَالدَّرَاهِمِ إلَّا مِائَةً) إنْ كَانَتْ حَالَّةً وَإِسْقَاطًا لِذَلِكَ (وَتَأْجِيلًا لِلْبَاقِي) إنْ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً (تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ فِيهِ أَلْزَمُ) لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِيطَةِ وَالْحَطُّ هَاهُنَا أَكْثَرُ فَيَكُونُ الْإِسْقَاطُ أَلْزَمَ مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ. قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَدِّ إلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ فَفَعَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا عَادَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَعُودُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى وَهِيَ لِلْمُعَاوَضَةِ، وَالْأَدَاءُ لَا يَصِحُّ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَجَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا فَلَا يَعُودُ كَمَا إذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ.
وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ غَرَضًا حِذَارَ إفْلَاسِهِ وَتَوَسُّلًا إلَى تِجَارَةٍ أَرْبَحَ مِنْهُ، وَكَلِمَةُ عَلَى إنْ كَانَتْ لِلْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَالْإِبْرَاءُ مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ، وَسَتَخْرُجُ الْبُدَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي إذَا قَالَ صَالَحْتُك مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ تَدْفَعُهَا إلَيَّ غَدًا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى أَنَّك إنْ لَمْ تَدْفَعْهَا إلَيَّ غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْك عَلَى حَالِهِ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ لِأَنَّهُ أَتَى بِصَرِيحِ التَّقْيِيدِ فَيُعْمَلُ بِهِ.
وَالثَّالِثُ إذَا قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا وَالْإِبْرَاءُ فِيهِ وَاقِعٌ أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعْطِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ أَوَّلًا، وَأَدَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا مُطْلَقًا وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَدَأَ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ حَصَلَ مَقْرُونًا بِهِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا يَقَعُ مُطْلَقًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا لَا يَقَعُ مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ بِالشَّكِّ فَافْتَرَقَا.
وَالرَّابِعُ إذَا قَالَ أَدِّ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ وَلَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا.
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَلَا يَعُودُ الدَّيْنُ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا لَا يَكُونُ الْأَدَاءُ غَرَضًا صَحِيحًا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي مُطْلَقِ الْأَزْمَانِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَلَا يَصْلُحُ عِوَضًا، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِي الْغَدِ غَرَضٌ صَحِيحٌ.
وَالْخَامِسُ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت.
فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ صَرِيحًا، وَتَعْلِيقُ الْبَرَاءَاتِ بِالشُّرُوطِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِصَرِيحِ الشَّرْطِ فَحُمِلَ عَلَى التَّقْيِيدِ بِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَخْ) وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةٌ فَقَالَ أَدِّ إلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ فَفَعَلَ فَهُوَ بَرِيءٌ.
قِيلَ مَعْنَاهُ فَقَبِلَ فَهُوَ بَرِيءٌ فِي الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: فَأَدَّى إلَيْهِ ذَلِكَ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ عَادَ الْأَلْفُ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَعُودُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَيِّدُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَهِيَ عَلَى، وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا، لِأَنَّ حَدَّ الْمُعَاوَضَةِ أَنْ يَسْتَفِيدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا وَالْأَدَاءُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فَجَرَى وُجُودُهُ: أَيْ وُجُودُ جَعْلِ الْأَدَاءِ عِوَضًا مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَعُودُ كَمَا إذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتُك عَنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ.
وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ وَالْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ: أَيْ عِنْدَ فَوَاتِهِ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ لَيْسَ عِلَّةً لِانْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ عِنْدَ انْتِفَائِهِ فَاتَ لِبَقَائِهِ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ خَمْسِمِائَةٍ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ غَرَضًا حَذَارِ إفْلَاسِهِ أَوْ تَوَسُّلًا إلَى تِجَارَةِ أَرْبَعٍ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ وَكَلِمَةُ عَلَى وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُعَاوَضَةِ لَكِنْ تَحْتَمِلُ مَعْنَى الشَّرْطِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ مُقَابَلَةَ الشَّرْطِ بِالْجَزَاءِ كَمَا كَانَ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَتَحْتَمِلُ عَلَى الشَّرْطِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَكَأَنَّهُ مِنْهُمَا قَوْلٌ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ: أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْعِوَضِ لَكِنْ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ الشَّرْطُ (قَوْلُهُ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ: يَعْنِي أَنَّ حَمْلَ كَلِمَةِ عَلَى عَلَى الشَّرْطِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا لِوُجُودِ الْمُقَابَلَةِ وَإِمَّا لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفٌ بِأَنْ يَكُونَ تَعْجِيلُ الْبَعْضِ مُقَيَّدًا لِإِبْرَاءِ الْبَاقِي، وَالْمَعْرُوفُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ شَرْطًا فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَنْقُدْ غَدًا فَلَا صُلْحَ بَيْنَنَا (قَوْلُهُ وَالْإِبْرَاءُ مِمَّا يَتَقَيَّدُ بِالشَّرْطِ وَإِلَّا كَانَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِالشَّرْطِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِغَرِيمٍ أَوْ كَفِيلٍ إذَا أَدَّيْت أَوْ مَتَى أَدَّيْت أَوْ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ هُوَ التَّعْلِيقُ بِهِ فَكَيْفَ كَانَ جَائِزًا؟ وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى.
أَمَّا لَفْظًا فَهُوَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّرْطِ صَرِيحًا وَالتَّعْلِيقُ بِهِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ فِي التَّقْيِيدِ بِهِ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ عَلَى عَرْضِيَّةِ أَنْ يَزُولَ إنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ، وَفِي التَّعْلِيقِ بِهِ الْحُكْمُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ وَهُوَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَمَا فِي سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ، وَتَعْلِيقُ الْإِسْقَاطِ الْمَحْضِ جَائِزٌ كَتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ، وَتَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِهِ لَا يَجُوزُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ شُبْهَةِ الْقِمَارِ الْحَرَامِ.
وَالْإِبْرَاءُ لَهُ شُبْهَةٌ بِهِمَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
فَقُلْنَا: لَا يُحْتَمَلُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ عَمَلًا بِشَبَهِ التَّمْلِيكِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ، وَيَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ بِهِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْإِسْقَاطِ وَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَرْفُ شَرْطٍ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حَرْفُ شَرْطٍ فَكَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ وَالْمُقَيَّدُ بِهِ يَفُوتُ عِنْدَ فَوَاتِهِ كَمَا مَرَّ (قَوْلُهُ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ كَانَ كَالْحَوَالَةِ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ.
وَقَوْلُهُ (وَسَتَخْرُجُ الْبُدَاءَةُ بِالْإِبْرَاءِ) وَعْدٌ بِالْجَوَابِ عَمَّا قَالَ أَبُو يُوسُفَ كَمَا إذَا بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ.
وَإِذَا تَأَمَّلْت مَا ذَكَرْت لَك فِي هَذَا الْوَجْهِ ظَهَرَ لَك وَجْهَ الْوُجُوهِ الْبَاقِيَةِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي حَصْرِ الْوُجُوهِ عَلَى خَمْسَةٍ: إنَّ رَبَّ الدَّيْنِ فِي تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْأَدَاءِ أَوْ لَا، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فَلَا يَخْلُو، وَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَ مَعَهُ بَقَاءَ الْبَاقِي عَلَى الْمَدْيُونِ صَرِيحًا عِنْدَ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَإِنْ ذَكَرَهُ فَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْأَدَاءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ لَا، فَإِنْ بَدَأَ بِهِ فَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ بَدَأَ بِحَرْفِ الشَّرْطِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ فَالْوَجْهُ الرَّابِعُ وَإِنْ بَدَأَ فَهُوَ الْخَامِسُ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي ظَهَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِاسْتِخْرَاجِ الْجَوَابِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ أَوَّلًا لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، فَإِذَا قُدِّمَ الْإِبْرَاءُ حَصَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ بِذِكْرِ مَا بَعْدَهُ وَقَعَ الشَّكُّ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عِوَضًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَزُلْ بِهِ الْإِطْلَاقُ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا يُقَيَّدُ بِهِ وَزَالَ الْإِطْلَاقُ، فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ الثَّابِتُ أَوَّلًا، وَفِي عَكْسِهَا عَكْسُ ذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ وَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ لِلْأَدَاءِ وَقْتًا ظَهَرَ أَنَّ أَدَاءَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فِي مُطْلَقِ الْأَزْمَانِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِيَحْصُلَ بِهِ التَّقْيِيدُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جِهَةُ الْعِوَضِ، وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْخَامِسُ تَعْلِيقٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُهُ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَا أُقِرُّ لَك بِمَالِك حَتَّى تُؤَخِّرَهُ عَنِّي أَوْ تَحُطَّ عَنِّي فَفَعَلَ جَازَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ ذَلِكَ سِرًّا، أَمَّا إذَا قَالَ عَلَانِيَةً يُؤْخَذُ بِهِ.
الشَّرْحُ:
وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ لَا أُقِرُّ لَك بِمَا لَك عَلَيَّ حَتَّى تُؤَخِّرَهُ عَنِّي أَوْ تَحُطَّ عَنِّي بَعْضَهُ فَفَعَلَ أَيْ أَخَّرَ أَوْ حَطَّ (جَازَ عَلَيْهِ) أَيْ نَفَذَ هَذَا التَّصَرُّفُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ إنْ أَخَّرَ وَأَبَدًا إنْ حَطَّ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ) لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ التَّحْلِيفِ.
لَا يُقَالُ: هُوَ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُقِرَّ، لِأَنَّ تَصَرُّفُ الْمُضْطَرِّ كَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَاعَ عَيْنًا بِطَعَامٍ يَأْكُلُهُ لِجُوعٍ قَدْ اُضْطُرَّ بِهِ كَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا (وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ ذَلِكَ سِرًّا، أَمَّا إذَا قَالَ عَلَانِيَةً يُؤْخَذُ) الْمُقِرُّ (بِجَمِيعِ الْمَالِ) فِي الْحَالِ.